المطران جرجس القس موسى
في 4 كانون الأول 2021 انطفأ سراج الأب البير أبونا وجفّ قلمه عن الكتابة. شمعة فكرية تنطفئ في كنيسة العراق. كاتب ومؤرخ ومترجم غزير الإنتاج في التراث السرياني – الآرامي، تاريخا وأدبا، وقد تنوّع انتاجه ليشمل كتابات روحية وكنسية أيضا.. وتميّز في كتاباته بالجدية والصدق والإلتزام. من تلامذة معهد مار يوحنا الكهنوتي للآباء الدومنيكان في الموصل. يحسن اللغة الفرنسية مما فتح له قنوات واسعة للإطّلاع والأنفتاح والإستنارة.
سيرة حياة كاتب
ولد "الأب ألبير أبونا" الحقيقي بتاريخ 17 حزيران 1951، يوم اقتبل الرسامة الكهنوتية في الموصل بهذا الأسم. وكان مولده من أبويه سنة 1928 في فيشخابور المشرفة على نهر دجلة في تلاقيه مع الخابور في المثلث الحدودي العراقي التركي السوري. خدم في بقعته الجغرافية حتى 1955 حين انتقل الى معهد مار يوحنا الكهنوتي بالموصل ليكون كاهنا كلدانيا مقيما في المعهد ومدرسا للغة الآرامية خلفا للمرحوم الخوراسقف أنطون زبوني، فزج الأب البير نفسه في عالم اللغة السريانية والتمرس على الكتابة والترجمة. ومن بوابة اللغة السريانية دخل الى محراب تاريخ الكنيسة الشرقية والأدب الأرامي وشهداء المشرق. وظل هنا مدة 18 عاما حتى إغلاق المعهد، فانتقل الى بغداد وخدم في الأبرشية البطريركية الكلدانية. ثم استهوته الحياة الرهبانية فانتمى الى الرهبنة الكرملية وبقي فيها مدة 18 سنة أخرى. وتركها لينتمي الى الرهبنة الكلدانية بهدف تجديدها وإنعاشها، ولما لم يلق جوا مؤاتيا لهذا المشروع عاد الى الخدمة الراعوية حتى سنة التقاعد 2009، وهنا غادر بغداد الى مطرانية الكلدان في كركوك ضيف غبطة البطريرك ساكو إذ كان مطران الأبرشية، وبعد سنة انتقل في 2010 الى مطرانية أربيل الكلدانية. ولكن الأب ألبير حيثما كان تعوّد فكره على البحث والنقد وقلمه على الكتابة والتحرير، ففي رصيده أكثر من 150 كتابا، تأليفا وتدوينا وتحقيقا وتعريبا، أضحت مراجع للمتتبعين والأكاديميين والمتخصصين في تراث كنيسة المشرق.
عناوين وألقاب
عند شروعي بإعداد هذه الكلمة وجدت شريحة من العناوين، يعكس كل منها زاوية الكاتب أو تفرضه شهرة المحتفى به:
الصفة اللافتة عند معظم متتبعي نتاج الأب ألبير، وهي صفة "المؤرخ". الأب البير يستحقها وبجدارة لأنه منذ 1964 كانت أبحاثه الأولى بابا ثابتا في مجلة الفكر المسيحي الصادرة في الموصل عن "تاريخ الكنيسة" ظهرت لاحقا في كتاب مستقل. ثم تطورت أبحاثه وتعددت واختصت في فروع التاريخ الكنسي المشرقي وتاريخ الأدب السرياني الأرامي واللغة السريانية والطقوس الشرقية والديارات والرؤساء. ولقد طرق باب التاريخ لأنه العنصر الأهم لإحياء الذاكرة الجماعية وشحذ الهمم للتجديد والإبداع على خطى الآباء في الكنيسة التي أحبها، كنيسة العراق، وكنيسة االمشرق بجناحيها.
كاهن ملتزم وحدّي
عُرف الأب ألبير منذ عاصرناه كتلاميذ في المعهد الكهنوتي ومدرسا للغة الآرامية كاهنا ملتزما أمينا حتى في الدقائق مثل احترام الوقت، والدقة في الإنجاز سواء كان له أو عليه، ونزيها لا طموح له سوى أن ينجز ما يسند اليه أو يختار فعله بالكمال والأمانة التامة. ولا يدع للغرور أو الطمع في المواقع أو الترقيات مجالا لأن يحيد قيد أنملة عن الإنضباط الذي رسمه إحساسه وضميره. وهذا ما كان يجعله أحيانا في مواجهة مع مواقف مغلّفة للبعض أو مع مسؤولين كنسيين أعلى منه، يحاول أن يُسمعهم صوتا نبويا لأصلاح سلوكية أو تعديل موقف أو تحديث كنسي في الإدارة أو الخطاب أو التعامل أو النزاهة أو عيش الفقر، بعيدا عن الوجاهة أو التمرغ بالسياسة أو مراعاة المظاهر على حساب الجوهر. ولكن خطاب الأنبياء دائما يزعج ! لقد كان الأب البير مصنوعا من قطعة واحدة لا تركيب فيها، الى حدّ جعله يعتذر عن قبول الأسقفية إذ عرضت عليه.
لقد أحب الأب ألبير الكنيسة بكل جوارحه، وكنيسة العراق بالذات التي نظر إليها بشمولية،لا من خلال وحدات طائفية متفرقة غارقة في أوهام العظمة والماضي. نعم، لقد أحبها واحدة موحّدة، أحبها جميلة، نضرة، شجاعة، ملتزمة، متكاتفة في مؤسساتها وتعاون رعاتها وتنسيق العمل بينهم. حطّ به المطاف في السنوات الأخيرة في أبرشية كركوك، فأبرشية أربيل - عينكاوة حيث استقبله في سنواته الآخيرة المطران بشار وردة وأحاطه بالعناية والمودة ليستمر في الكتابة والتأليف والنشر، بل نشر له هو ذاته عدة كتب في السنوات الآخيرة.
أستاذ وصديق ومسؤول عام
عندما جاء الأب ألبير الى معهد مار يوحنا الحبيب كنت في السنة الرابعة وقد درّسنا مادة اللغة الآرامية، أي السريانية، بلهجتيها الشرقية والغربية. وقد زرع فينا حب لغتنا التاريخية والطقسية ودربنا على ترجمة نصوص الآباء والمفكرين السريان. ولكننا كنا ننظر إليه، وخاصة في السنوات اللاحقة في مرحلة الفلسفة واللاهوت، لا كمعلم وحسب، بل كصديق نرتاح اليه ونصغي الى خبرته وارشاداته.
وعندما باشرنا، زملائي كهنة يسوع الملك وأنا، بإصدار مجلة "الفكر المسيحي" سنة 1964 كان من الطبيعي أن نفكر بمساهمة الأب ألبير أبونا، بل دخل ككاتب أساسي في "باب تاريخ الكنيسة" الثابت وعضوا في هيئة التحرير. ثم تعمقت علاقتنا عندما انتمى الأب ألبير الى جماعة كهنة يسوع الملك كعضو منفرد، ولقد كان في الأساس أحد أركان "أصدقاء يسوع الملك"، هذا الفريق من الكهنة الشباب الذين شكلوا منذ الخمسينات "حلقة كهنوتية أخوية" حول الأب يوسف أومي مدير معهدنا ذاته للتساند الروحي والإنساني والثقافي، ولقد أفردوا لهم مكتبة خاصة في معهد مار يوحنا الحبيب يقترضون منها الكتب للتغذية الروحية وكمصادر ثقافة ووعظ. ولكن عقدهم انفرط مع تغيير نظام الحكم في العراق في تموز 1958. فجئنا نحن الأربعة كهنة يسوع الملك الأوائل (نعمان أوريدة، بيوس عفاص، جاك اسحق، وجرجس القس موسى) لنبني على فكرتهم ونظيف اليها تطبيق الحياة المشتركة لأول مرة بين الكهنة في العراق، وكنا ننتمي الى الكنيستين الشقيقتين الكلدانية والسريانية. وباشرنا حياتنا المشتركة في كنيسة مار توما بالموصل في 18 أيلول 1962 ثم فكرنا باستقبال كهنة من أبرشيات الكنيستين"كأعضاء منفردين"، أي منضمين الى الروحانية ذاتها والقانون ذاته ويشاركون إخوة الحياة المشتركة في اللقاءات الأسبوعية والشهرية والسنوية مع بقائهم في مراكز عملهم. وكان الأب ألبير عضوا مثابرا ومخضرما بيننا، وفي السبعينات انتخبناه "مسؤولا عاما" على الجماعة، وكان لنا مثال الأمانة والدماثة والطيبة .. وكصديق كنت أحب أفكاره وأستأنس بدعابته وارتاح الى حرارة لقاءاته وإنسانيته... ولم أنقطع قط عن زيارته، لاسيما في هذه السنوات الآخيرة كلما قصدت الوطن فأقضي دردشة منعشة معه في قلايته الصغيرة في مطرانية عينكاوة، وقد تطول بنا الشطحات في استعراض أوضاع كنيستنا في حلوها ومرها، في تلكؤاتها وصغاراتنا أحيانا، أو في التعليق على هذه الدعابة منه أو تلك. وأخرج من عنده كل مرة محمّلا بكتاب جديد أو أكثر من نتاجه.