بنيامين حداد
تسعة عقود ونيف من السنين عاشها الاب البير ابونا، فكان كاهنا بجدارة.
تسعة عقود ونيف من السنين عاشها الاب ابونا فكان عالما ومؤرخا بجدارة.
كان الاب ابونا يؤمن ان التاريخ تجارب السلف الصالح، وحصيلة وارهاصات معطياتها عبر العصور، تفتح للاجيال ابوابا مشرعة لاستقراء الاحداث والرموز التاريخية. وادراك الضوابط الاجتماعية التي تحكمت في وقوعها وظهورها حينذاك والاطلاع على مراحل تطورها سلبا أو ايجابا..
كان رحمه الله يؤمن بعمق بأن من اوليات واجبات المؤرخ الملزمة، ان لا يتناول الاحداث والوقائع التاريخية على خط مستقيم وكواقع جامد محسوم، وانما يدرسه كتجربة متطورة ومتغيرة ومتحولة من حالة الى حالة، تحت تأثيرات زمانية- مكانية. وان يسير بعملية التأرخة ليس عموديا فحسب بل افقيا، ويتدبر المفردة التاريخية من جميع وجوهها، وان على المؤرخ أن يعيش الحدث التأريخي كما لو كان معاصرا له. موظفا قدراته وخبراته ورصيده المعلوماتي العام، فيقدم لمعاصريه زبدة التاريخ النقية الخالية من الشوائب، بعبارات مركزة واضحة شفافة حيادية..
كتب الاب ابونا في الكنيسة المشرقية باسهاب وتفصيل وضعا وتحقيقا وترجمة. ويكفيه فخرا مجلداته الثلاثة في تاريخ الكنيسة الشرقية اضافة الى سفره الثمين أدب اللغة الارامية وفجر الكنيسة وديارات العراق، وغيرها من الكتب المحققة والمترجمة..
الا أن الامانة التاريخية تلزمنا أن نذكر بأن الاب ابونا كان جامعا وموثقا لمفردات التاريخ اكثر منه مؤرخا.
قرأ مصنفات موروثنا التاريخي، الا انه لم يشأ ان يستقرئه على ضوء النظرية النقدية العلمية الحديثة للتاريخ، التي غدت اليوم تميز بين ما هو حدث تاريخي حقيقي، وما هو مجرد قصص وروايات واساطير ايمانية وضعت من قبل آباء الكنيسة الاوائل.
وشتان ما بين أن نقرأ التاريخ وأن نستقرئه. فالاستقراء هو تحليل وتمحيص ونقد موضوعي علمي بعيدا عن العواطف والمشاعر، هو قراءة ما وراء السطور قبل المسطر. والخروج بالحادث التاريخي الواقعي الحقيقي.
ولكن رغم كل ما ذكرناه ، سيظل الاب البير ابونا قامة سامقة شامخة على الساحة التاريخية. فنحن اليوم لو ابعدنا المصنفات التاريخية التي انجزها يراعه خلال عقود عديدة من عمره. لغدت معلوماتنا عن كنيستنا المشرقية، لا اقول بمستوى الصفر وانما قريب الصفر.